طريق الحرير بين الماضي والحاضر والمستقبل
طريق الحرير بين الماضي والحاضر والمستقبل
كما عودناكم دوما متابعينا الكرام على انتقاء المواضيع الهامة والتطرق إلى تفاصيل تغيب تماما عن واقع الكثير من المتداولين والمستثمرين والتي نسعى من خلالها إلى أن نجعل المتداولين والمستثمرين العرب على قدر كبير من المعرفة والخبرة بخبايا الأمور لاكتساب المهارة والحنكة بمرور الأيام حتى يديروا أعمالهم واستثماراتهم بشكل احترافي ولكي يعلموا ما يؤثر على تحركات الأسواق العالمية وما يجري وراء الكواليس ولن نطيل وسندخل الان بالموضوع... بالطبع أنت تتذكر عزيزي المتداول والمستثمر أنه قبل ظهور جائحة كورونا واستحواذها على جل اهتمام العالم وتكبيد الاقتصادات العالمية خسائر اقتصادية فلكية وبشرية كبيرة كانت الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أشدها وكانت تتصدر عناوين الأخبار بصفة يومية لمدة عامين أو أكثر وقد كان لتلك الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم صدى وتأثير قوي على جميع بلدان العالم واقتصاداتها على حد سواء بل وأثرت تلك الحرب بشكل مباشر على الأسواق العالمية وانعكس ذلك على جميع الأدوات المالية ومن عاصر تلك الفترة وكان يتداول فيها أو يستثمر في القطاعات المختلفة فانه يعي تماما ما نتكلم به.
في هذا المقال نود أن نلفت انتباهك إلى أنه لربما قد تكون هناك حرب تجارية جديدة تلوح في الأفق ليس بين الولايات المتحدة والصين فحسب، بل بين الصين وعدد من البلدان الرئيسية الأخرى حول العالم وأبرزها أستراليا ونيوزيلندا وغيرها فهل لديك إلمام وصورة كاملة عن هذا الأمر عزيزي المتداول!! أم إنك فقط تتابع الوضع الذي وصلت إليه بعض الاقتصاديات الكبرى بفعل أزمة كورونا وتداعيات ذلك على الأسواق!! في كلا الحالتين سواء كان لديك فهم كامل عن خبايا الأمور أو لا سنصحبك الآن خلال السطور القادمة في جولة حول طريق الحرير الصيني الجديد الذي سيكون فتيل للحرب التجارية القادمة التي بدأت تقرع طبولها فعليا.
ربما تكون قد سمعت عن طريق الحرير لكن هل لديك المعلومات الوافية عنه سنبدأ بتعريف بسيط هو طريق تجاري تاريخي يعود تاريخه إلى القرن الثاني قبل الميلاد وحتى القرن الرابع عشر الميلادي حيث امتد من آسيا إلى البحر الأبيض المتوسط عبر الصين والهند وبلاد فارس والجزيرة (SE:8012) العربية واليونان وإيطاليا أطلق عليه اسم طريق الحرير بسبب تجارة الحرير الثقيلة التي حدثت خلال تلك الفترة حيث كان يتم صناعته في الصين آنذاك والتي احتكرت في البداية إنتاج الحرير حتى انتشرت أسرار تصنيعه إلى البلدان الأخرى وبالإضافة إلى تجارة الحرير سهل الطريق أيضا تجارة الأقمشة والتوابل والحبوب والفواكه والخضروات وجلود الحيوانات والأعمال الخشبية والمعدنية والأحجار الكريمة وغيرها من الأشياء ذات القيمة عبر هذه الأراضي الشاسعة والبلدان العديدة ونقل عبر الطريق خلال السنوات الطويلة من التجارة العديد من المنتجات التي كان لها تأثير كبير على الغرب حيث هناك العديد من السلع لها جذورها في الصين مثل الورق وتشير المراجع إلى أن البارود أيضا يعود اصله إلى الصين وغيرها من السلع، وأصبح بعض من هذه السلع الأكثر تداولا بين الصين وشركائها التجاريين الغربيين وكان الورق مهما بشكل خاص لأنه أدى في النهاية إلى اختراع المطابع.
كان لهذا الطريق أهمية كبيرة للتجارة العالمية للبلدان التي يمر منها وللصين على وجه الخصوص أيضا على مدار قرون إلى أن بدأت حقبة احتلال البلدان وتقسم هذا الطريق وتقطعت اوصاله لكن في عام 2013 أعلن الرئيس الصيني عن اعادة احياء هذا الطريق عبر تسميه ومبادرة جديدة أطلق عليها "الحزام والطريق" وهو طريق تجارة جديد يقوم على أنقاض طريق الحرير القديم ويتكون " الحزام والطريق " من ممر تجاري مزدوج بري وبحري ووفقا لخطة عمل المبادرة سميت الطرق البرية بـ "الحزام" والطرق البحرية بـ "الطريق" يعد هذا المشروع الصيني هو الأضخم في العصر الحديث وهو مشروع تجاري وتنموي اقتصادي طموح يركز على تحسين الاتصال والتعاون بين دول متعددة منتشرة عبر قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا وأطلق عليه أيضا اسم "مشروع القرن" من قبل السلطات الصينية يمتد مشروع الحزام والطريق إلى أكثر من 78 دولة ويتضمن بناء شبكة كبيرة من الطرق والسكك الحديدية والموانئ البحرية وشبكات الطاقة والمعلومات وأنابيب النفط والغاز ومشاريع البنية التحتية المرتبطة بها بل وحتى القواعد عسكرية .
يحظى برنامج الحزام والطريق بأهمية قصوى وكاملة بالنسبة للصين ويعد أمر يتعلق بأمنها القومي ويهدف المشروع إلى تعزيز النمو المحلي وهو أيضا جزء من استراتيجية الدولة للدبلوماسية الاقتصادية من خلال ربط المناطق الحدودية الأقل نمواً مع الدول المجاورة وتهدف الصين عبره إلى زيادة النشاط الاقتصادي وخلق أسواق جديدة للسلع الصينية كما أنه سيمكن القوة التصنيعية من السيطرة على الطرق الفعالة من حيث التكلفة لتصدير المواد بسهولة
واجتازت الصين فعليا منذ بدء الإعلان والى يومنا هذا العديد من المعالم المتعلقة بالحزام والطريق بما في ذلك توقيع مئات الصفقات منذ عام 2016 وستتيح سكك الحديد للقطارات السريعة المنجزة لشركات الشحن بديلاً عن الطرق المائية البطيئة، ولكنها رخيصة نسبيا والطرق الجوية السريعة، ولكنها باهظة الثمن نسبيا.
ونرى أن الهدف من هذا المخطط البالغ حجم كلفته ربما أكثر من 900 مليار دولار هو إشعال "حقبة جديدة من العولمة" وعصر ذهبي للتجارة يستفيد منه الجميع وعلى الرغم من أن "طريق الحرير الجديد" هو مشروع تنمية دولي صيني ضخم قد يقلب النظام العالمي رأساً على عقب وسط دعم قوي من قبل روسيا وباكستان وإيطاليا وغيرها من الدول فقد لاقى هذا المشروع هجوما مكثفا من العديد من البلدان فما هو السبب؟
في الواقع أعرب حلفاء إيطاليا الأوروبيون والأمريكيون عن شكوكهم بشأن النوايا الجيوسياسية الحقيقية للصين وظهر ذلك جلياً في اقتصار مشاركة هذه الدول في القمم بتمثيل دبلوماسي على مستوى الوزراء بينما لم ترسل واشنطن أحداً ويعتبر الاستثناء الأوروبي الوحيد كان رئيس الوزراء الإيطالي الذي انضمت بلاده إلى المبادرة الصينية في مارس الماضي لتكون أول دولة من مجموعة السبع تقدم على هذه الخطوة.
هذا وتتصدر أستراليا الدول المناهضة لهذا المشروع حيث تم إلغاء صفقات مبادرة الحزام والطريق كاملة لان الصفقات لا تتفق مع السياسة الخارجية لأستراليا وتوعدت الصين أستراليا بدفع الثمن لتزداد بعدها التوترات بين الشريكين السابقين حيث تعد الصين أكبر شريك تجاري لأستراليا وبلغ إجمالي التجارة الثنائية 252 مليار دولار أسترالي (195 مليار دولار أمريكي) في عام 2019 لتتدهور بينهم العلاقات بعدها وبالمثل تتبنى ألمانيا موقف متشدد تجاه الصين وعبرت عن قلقها من استهدافها شراء حصص في الشركات الألمانية الكبرى وتخشى العديد من الدول من أن الصين تتخذ المشروع وسيلة لشراء النفوذ السياسي في الدول النامية وتوسيع قوتها العسكرية العالمية.
أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فقد كان موقفها واضح من مبادرة الحزام والطريق حاله كحال خط أنابيب الغاز الروسي نورد ستريم 2 وظهر ذلك جليا في اجتماع مجلس الأمن عام 2019 حيث انتقد السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة المشروع علنا في القمة وتم اتهام الصين بانها تسعى للتجسس وقال المسؤولين الأمريكيين في العديد من المناسبات والمحافل الدولية إن الولايات المتحدة والعديد شركائها في جميع أنحاء العالم يشككون منذ فترة طويلة في مبادرة الحزام والطريق الصينية وأن الحكومة الصينية تفتقر للشفافية وضعف المعايير البيئية والعمالية وتنتهج أن تضع العديد من البلدان في وضع أسوأ وغيرها من التهم وكانت الردود الصينية عديدة لكن أبرزها كان " لقد ولت الأيام التي كانت تملي فيها القرارات العالمية مجموعة صغيرة من الدول " وعلى الرغم من أن الاتهامات الأمريكية تبدو منمقة وبمصطلحات راقية إلا أن السبب الحقيقي لهذا الانزعاج الكبير هو التالي فاستحضر تركيزك معنا عزيزي المتداول والقارئ الكريم ... الصين تسعى وبشكل جلي وبجدية كبيرة إلى أن تزيد نفوذها في العالم من خلال الحزام والطريق وهذا أمر يزعج جدا الولايات المتحدة وحلفائها المعارضين للمشروع الذين بدأوا يستشعرون مواجهة النفوذ الجيوسياسي الصيني فالصين أصبحت قوة لا يستهان بها وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة وستصبح الأولى في غضون عقد من الزمان أو اقل وهذا ليس بتحليل أو بضرب من الخيال بل كلام واقعي مبني على بيانات واحصائيات اقتصادية بالإضافة إلا أن الصين قد قلصت من الفجوة والتفوق العسكري الأمريكي عليها ولعلنا نرى هذا جيداً في التحذيرات والتقارير المتكررة من قبل قادة الجيش الأمريكي في المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي ومن القادة في وزارة الدفاع الأمريكية ولجنة القوات المسلحة في مجلسي النواب والشيوخ الأمريكي من مخاطر التفوق العسكري الصيني ...ومن يقرأ ويفهم ما بين السطور ولديه نظرة عميقة سيرى أن الغاية ليست فقط التجارة والتنمية لكن الغاية هي السيطرة على العالم فالصين تسعى إلى كسر هيمنة الولايات المتحدة وانهاء مسمى القطب الواحد لها وتسعى أيضا إلى أخذ مكانها والتمتع بالنفوذ العالمي وما كانت الحرب التجارية في عهد ترامب والتضييق الكبير عليها بالحرب التجارية إلا محاولة لكسرها وتقييد تحركاتها فالولايات المتحدة تشعر بخطر داهم بهذا الصدد ، والآن بعد أن تعرفنا عن ماهية طريق الحرير الجديد فقد أصبح لديك عزيزي المتداول والمستثمر فكرة عن أهميته ولديك معلومات وافية عنه لأن هذا الطريق سيكون له أهمية قصوى خلال السنوات المقبلة وقد يكون هو محور تركيز أسواق المال والبلدان العربية والغربية على حدٍ سواء كما قد يتراءى لنا أن الصراع الأمريكي-الصيني هو في هدنة الآن بفعل جائحة كورونا ولكن تلك الهدنة قد لا تستمر كثيرا إذا ما تلاشت الجائحة وانتهت ،، قبل الختام غايتنا أن تكون عزيزي المتداول والمستثمر ملم بكل الأمور التي من شأنها التأثير على الأسواق العالمية والحركات السعرية للأدوات المالية وقطاعات الاستثمار فكلنا يذكر أيام الحرب التجارية الأمريكية الصينية التي كبدت المتداولين والمستثمرين حول العالم خسائر مهولة فالمتداول الفطن الواعي الذي لديه علم عن كل شيء يعلم كيفية التعامل مع مثل هذه الأوضاع لو حصلت وسيعرف كيف يتصرف في ظل وجود هكذا ظروف وضغوط جيوسياسية ومعرفته هذه ستجنبه الخسارة بلا أيضا ستدله على الطرق الممكنة لتحقيق الأرباح فكل ما تكلمنا به وما سنتكلم به لاحقا في مقالات أخرى يجب أن يكون في جعبة كل متداول ومستثمر يتسلح به في مواجهة ما قد يحصل في قادم الأيام.
Reply